![]() |
الرد على مَن يقول إن الله تعالى خلق آدم في الأرض وليس الجنة
هذه الإشكالية طرحها قائل ويزعم أن آدم لم يكن في جنة الخلد عندما أخرج منها ويقول: هناك شبه إجماع لدى عامة المسلمين أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم في "الجنة" أي التي وعد الرحمن بها عباده الصالحين لكن هل هذا صحيح ؟ أنا أقول : لا ، وغيري كثر يقولون ذلك آدم خلق في الأرض بالضبط في موضع سمي "الجنة" ولنبدأ من البداية وليكن الاستدلال العقلي نهجنا لنصل للحقيقة: لفظ الجنة لا يختص بتلك الجنة التي وعد المتقون بها في الآخرة (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ) الكهف . هنا وردت الجنة بمعنى البستان أو الحديقة وقد درجنا على استعمال لفظ الجنة لوصف جمال وروعة حديقة أو بستان معين كان ذلك مدخلا. لنأتي للأهم ،الرحمن قال: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) إذا كانت الجنة في السماء كيف أن الله يقول للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ثم يجعله في السماء في الجنة ؟ هنا لبس ! أيضا قبل خلق آدم حسم الأمر أن مستقره في الارض .. صح طيب كيف إذن نسب خروج آدم من الجنة لإبليس وحده يعني مع أن الله هو المقرر ؟هنا لبس ! أيضا الجنة التي وعدنا إياها الرحمن "نسأل الله ان تكون من نصيبنا" لا نبعد عنها أي إننا مخلدون فيها ولا نخرج منها ما إن ندخلها ، إذن كيف يخرج آدم منها؟ لبس آخر ! ثم إن الجنة هي دار ثواب وليست دار امتحان أو معصية فكيف يعصي آدم ربه فيها ؟لبس آخر ! ثم إن جنة الخلد هي لعباد الله الذين رضي عنهم دون غيرهم ولا مكان للأشقياء هناك فكيف استطاع إبليس دخولها؟ لبس آخر ! في جنة الخلد عيش كريم ورغد ومتع لا تنقطع بلا موانع فكيف يحرم الله على آدم شجرة بعينها؟ لبس آخر ! الرحمن قال : ("فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى )عدو في الجنة؟ لبس آخر. ! آدم خلق من طين فالأقرب للعقل أنه خلق على الأرض .لكن ماذا عن قوله تعالى ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) البقرة 36 "اهبطوا"هل هي دليل على إن الجنة في السماء ؟ مهلا لا تتسرعوا فالإجابة: الهبوط يأتي على نوعين النوع الأول : هبوط مكاني كأن تهبط من الأعلى إلى الأسفل النوع الثاني : هبوط مقامي كقوله تعالى ( قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ) البقرة 61هنا كذلك لما قال الله لآدم وزوجه اهبطا أو اهبطوا . بمعنى هبوط مقامي من الأفضل إلى الأدنى هبوط مكاني . وتوصل في نهاية الموضوع إلى أن: خلاصة القول آدم خلق على الأرض وليس في جنة الخلد كما يعتقد كثيرون. هل هذا صحيح ؟ مع أنني بحثت في كتب التفسير وذكرت أنها جنة الخلد. http://www.riadalsona.com/upload/file-1346793084bg.gif الجواب : أولاً : قوله : (وليكن الاستدلال العقلي نهجنا لنصل للحقيقة) هذا نهج المعتزلة ومن سار بِسيرِهم ! وأهل السنة لا يُقدَّسون العقل ولا يُقدِّمونه على النقل ، وإنما يُعمَل العقل فيما له فيه مَجال . كما أن طريقة أهل السنة تحكيم النصوص على العقول وليس العكس ، بمعنى : أن العقول تخضع للنصوص ، وليست النصوص تُخضَع للعقول ! ثانيا : جرى الخلاف بين أهل السنة وبعض الفِرق : هل الجنة التي أُخرِج منها آدم هي جنة الخلد أو هي جنة من جِنان الأرض ؟ والراجح أنها جَنّة الْخُلْد . وسبب الخلاف ما أشار إليه من أن لفظ الجنة مُحْتَمَل ، مع ما أورده من إشكالات ! قال الثعلبي في تفسيره : وقَالَت القَدَرِيَّة : إنَّ الْجَنَّة التي أَسْكَنَها الله آدَم وحَوَّاء لم تكَن جَنَّة الْخُلْد ، وإنَما كَان بُسْتَانا مِن بَسَاتِين الدُّنيا ، واحْتَجُّوا بأنَّ الْجَنَّة لا يَكون فيها ابْتِلاء وتَكْلِيف . ثم إن هذا القول هو نَصّ التوراة التي بأيدي أهل الكتاب " (انظر البداية والنهاية ، لابن كثير (1/176) وقد أحال مُحققو الكتاب على " سِفْر التكوين ، الإصحاح الثاني (8 - 22) ) .فهذا القول هو قول القَدَرِيّة المستمد من التوراة ! وقالت به المعتزلة لِزعمهم أن الجنة لا توجد إلاَّ يوم القيامة ! وقد عقد الإمام البخاري بابا في " ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة " قال ابن حجر : أي : موجودة الآن ، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم من المعتزلة أنها لا توجد إلا يوم القيامة . اهـ . قال ابن كثير في التفسير : وقد اخْتُلِف في الجنة التي أُسْكِنها آدم أهي في السماء أم في الأرض ؟ فالأكثرون على الأول ، وحَكِى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض . اهـ . وأطال ابن القيم النَّفَس في مُناقشة هذه المسألة في " مفتاح دار السعادة " . ثالثا : جواب ما استشكله ، أو اعتبره لَبْسًا كما يلي : 1 - قول الله عزّ وجلّ : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، ليس فيه دليل على أن آدم عليه الصلاة والسلام خُلِق في الأرض ، لِعدة اعتبارات : أ - أن هذا كان في خِطابه تبارك وتعالى للملائكة قبل خَلْق آدم . ب - أنه إخبار عما سيكون مُستقبلا . جـ - أنه تبارك وتعالى أعقب هذا بالإخبار عن خَلْق آدم . د - أن الله عزّ وجلّ - وإن خَلَق آدم في جنة الْخُلْد - إلا أنه عزّ وجلّ عَلِم ما سيكون من آدم . وهذا جزء من عقيدة أهل السنة فيما يتعلق بالقدَر وكِتابته . هـ - قوله عزّ وجلّ : (إِنِّي جَاعِلٌ) لا يُفهم منه أن يكون في الحال حتى يُشكل أن يكون ابتداء خَلْقه في السماء . فلو قال قائل : إني صانِع وليمة . فهل يلزم أن تكون في الحال ؟ الجواب : لا ، فقد تكون السنة القادمة ! فقوله : (قبل خلق آدم حُسم الأمر أن مستقره في الأرض) هذا صحيح فيما يتعلق بِعِلْم الله ، أما ما يتعلق بآدم وتكليفه فهو متعلق بِسُكنى الجنة . فآدم عليه الصلاة والسلام وإن خُلِق في السماء إلاَّ أنه خُلِق لِعمارة الأرض . 2 - قوله : (كيف إذا نسب خروج آدم من الجنة لإبليس وحده يعني مع أن الله هو المقرر ؟) فالجواب : أن الله كَتَب مقادير الخلائق قبل خَلْق السماوات والأرض ، وهو سبحانه وتعالى عالِم بما سيكون منهم ، وعَلِم الله ما سيكون من إبليس وما سيكون من آدم ، فتقدير الله عزّ وجلّ مبنِيّ على عِلْمِه السابق . ولذلك جاء في مُحاجة موسى لآدم : قَال آدم : أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ؟ رواه البخاري ومسلم . وسيأتي الحديث بتمامه . 3 - قوله : (الجنة التي وعدنا إياها الرحمن ... لا نبعد عنها أي أننا مخلدون فيها ولا نخرج منها ما إن ندخلها ... ) أقول : هذا صحيح فيما يتعلق بالدخول الأخروي والتخليد الأبدي ، أما دُخول آدم عليه الصلاة والسلام فليس كذلك ؛ لأن الله قضى أن يهبط آدم إلى الأرض ، وأن يجعل في الأرض من يعمرها . 4 - قوله : (الجنة هي دار ثواب وليست دار امتحان أو معصية) ، هذا أيضا صحيح فيما يتعلق بالآخرة ، أي : إذا دَخَل أهل الجنة الجنة ، أما ما كان قبل ذلك فليس بصحيح على إطلاقه . وقد احتجت القدرية بذلك . قال الثعلبي عن القدرية : واحْتَجُّوا بأنَّ الْجَنَّة لا يَكون فيها ابْتِلاء وتَكْلِيف والْجَوَاب : إنا قَد أجْمَعْنَا على أنَّ أهْل الْجَنَّة مَأمُورُون فِيها بالْمَعْرِفة ومُكَلَّفُون بِذلك . وجَوَاب آخَر : إنَّ الله تَعالى قَادِر على الْجَمْع بَيْن الأضْدَاد ، فأَرَى آدَم الْمِحْنَة في الْجَنَّة ، وأرَى إبْراهيم النِّعْمَة في النَّار ؛ لئلا يَأمَن العَبْد رَبّه ، ولا يَقْنَط مِن رَحْمَتِه ، ولِيَعْلَم أنَّ له أن يَفْعَل مَا يَشَاء . اهـ . ومثله مَا قِيل : " مِن أنَّ الآخِرَة لَيْسَتْ دَار تَكْلِيف " ففِيه نَظَر ؛ فإنَّ مَا وَرَد في الْحَدِيث مِن امْتِحَان مَن لَم تَقُم عَليه الْحُجَّة لَيس مِن بَاب التَّكْلِيف ، بَل هو امْتِحَان واخْتِبَار في فَتْرَة قَصِيرَة ، ولا يُعَكِّر عليه كَوْن الآخِرَة لَيْستْ دَار تَكْلِيف ، لأنَّ الْحُكْم للغَالِب . ألاَ تَرى أنَّ أهْل الْجَنَّة يُلْهَمُون التَّسْبِيح والتَّحْمِيد والتَّهْلِيل ؟ وهُم في دَار الْجَزَاء ولَيْسُوا في دَار عِبَادَة . قال ابن حجر عن هَذا القَوْل : وتُعُقِّب بِأنَّ الآخِرَة لَيْسَت دَار تَكْلِيف ، فلا عَمَل فِيها ولا ابْتِلاء .وأُجِيب بِأنَّ ذلك بَعْد أن يَقَع الاسْتِقْرَار في الْجَنَّة أو النَّار ، وأمَّا في عَرَصَات القِيَامَة فلا مَانِع مِن ذلك ، وقَد قَال تَعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) ، وفي الصَّحِيحَيْن أنَّ النَّاس يُؤمَرُون بِالسُّجُود فَيَصِير ظَهْر الْمُنَافِق طَبَقًا فلا يَسْتَطيع أن يَسْجُد . اهـ . وإذا كان الامتحان يقع في الآخرة وهي ليست دار عَمَل ، فوقوع الامتحان في الجنة قبل ذلك جائز عقلا وشرعا . فقوله : (فكيف يعصي آدم ربه فيها؟) فالجواب أن المعصية وقعت وقد أخبر الله عنها ، وأنها كانت سببا لخروجه من الجنة ، وهذا ما دلّت عليه مُحاجة موسى عليه الصلاة والسلام لآدم عليه الصلاة والسلام ، ففي الصحيحين من حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى : أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنْ الْجَنَّةِ ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاتِهِ وَبِكَلامِهِ ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى - مَرَّتَيْنِ - . وفي رواية : فَقَالَ لَهُ مُوسَى : يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الْجَنَّةِ .وفي رواية : فَقَالَ مُوسَى : أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنْ الْجَنَّةِ . وفي رواية : قَالَ مُوسَى : أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ ، وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الأَرْضِ . فلو كان الخروج من جنة مِن جِنان الدنيا أكان الأمر يستحق الملامة ؟! ثم هو أمْر مُقدّر على آدم ، ووقوعه في الجنة ليس مُستحيلا ؛ لأن الجنة لا تكون دار خلود لا تقع فيها معصية إلاّ في الآخرة . وسيأتي ما يتعلق بِدخول إبليس بنحو هذا الجواب .. 5 - قوله : (إن جنة الخلد هي لعباد الله الذين رضي عنهم دون غيرهم ولا مكان للاشقياء هناك...فكيف استطاع إبليس دخولها؟) فالجواب من وُجوه : فَقِيل : وَسْوَس لَهُما مِن الأرْض ، لأنَّ الله تعالى أعْطَاه قُوَّة بِذلك حتى وَسْوَس لَهُما بِتِلْك القُوَّة مِن الأرْض إلى الْجَنَّة . وقِيل : حِين وَسْوَس لَهُما كَان في السَّمَاء ، فالْتَقَيا على بَاب الْجَنَّة هو وآدَم ، فَوَسْوَس . وقيل : إنَّ الْحَيَّة خَبَّأته في أنْيَابِها وأدْخَلَتْه الْجَنَّة ، فَوَسْوَس مِن بَيْن أنْيِابِها ، فَمُسِحَتْ الْحَيَّة ، وأُخْرِجَتْ مِن الْجَنَّة . ذكرها الإمام السمعاني في تفسيره .وقال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : كَيف تَوَصَّل إلى إزْلالِهما وَوَسْوَسَتِه لَهُمَا بَعْدَ مَا قِيل لَه : (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) ؟ قُلْتَ : يَجُوز أن يُمْنَع دُخُولَها عَلى جِهَة التَّقْرِيب والتَّكْرِمَة كَدُخُول الْمَلائكَة ، ولا يُمْنَع أن يَدْخُل على جِهَة الوَسْوَسَة ابْتِلاء لآدَم وحَوَّاء . وقيل : كَان يَدُنُو مِن السَّمَاء فَيُكَلِّمهما . وقيل : قَام عِند البَاب فَنَاَدَى . ورُوي أنّه أرَاد الدُّخُول فَمَنَعَتْه الْخَزَنة ، فَدَخَل في فَمِ الْحَيَّة حتى دَخَلَتْ بِه وَهُم لا يَشْعُرُون . ورَجَّح ابنُ عطية كَوْن الوَسْوَسَة مُشَافَهَة ، فَقَال : واخْتُلِف في الكَيْفِيَّة ؛ فَقَال ابن عباس وابن مسعود وجُمهور العُلَمَاء : أغْوَاهُمَا مُشَافَهَة ، ودَلِيل ذَلك قَوله تَعالى : (وَقَاسَمَهُمَا) ، والْمُقَاسَمَة ظَاهِرُها الْمُشَافَهَة . وقال بَعْضُهم : إنَّ إبْليس لَمَّا دَخَل إلى آدَم كَلَّمَه في حَالِه ، فَقَال آدَم : مَا أحْسَن هَذا لو أنَّ خُلْدًا كَان ، فَوَجَد إبْلِيس السَّبِيل إلى إغْوائه ، فقال : هَل أدُلُّك على شَجَرَة الْخُلْد ؟ وقال بَعضهم : دَخَل الْجَنَّة في فَمِ الْحَيَّة ... - ثم ذَكَر القصة - . وقالتْ طَائفة إنَّ إبْليس لَم يَدْخُل الْجَنَّة إلى آدَم بَعد أن أُخْرِج مِنها ، وإنّما أغْوَى آدَم بِشَيْطَانِه وسُلْطَانِه وَوَسَاوسِه التي أعْطَاه الله تَعالى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِن ابن آدَم مَجْرَى الدَّم . اهـ . وأجاب ابن القيم عن ذلك " مِن وُجُوه : أحَدها : أنه أُخْرِجَ مِنها ومُنِع مِن دُخُولِها عَلى وَجْه السُّكْنَى والكَرَامَة واتِّخَاذِها دَارًا ... ويَكُون هَذا دُخُولاً عَارِضًا كَما يَدْخُل الشُّرَط دَار مَن أُمِرُوا بِابْتِلائه ومِحْنَتِه ، وإن لم يَكُونُوا أهْلاً لِسُكْنَى تِلك الدَّار . الثَّاني : أنه كَان يَدْنُو مِن السَّمَاء فيُكَلِّمُهما ولا يَدْخُل عَليهما دَارَهما . الثَّالِث : أنه لَعَلَّه قَام عَلى البَاب فَنَادَاهُما وقَاسَمَهُمَا ولم يَلِج الْجَنَّة . الرَّابِع : أنه قد رُوي أنه أرَاد الدُّخُول عَليهما فَمَنَعَتْه الْخَزَنَة ، فَدَخَل في فَمِ الْحَيَّة حتى دَخَلَتْ بِه عَليهما ، ولا يَشْعُر الْخَزَنَة بذلكَ " . فأقوال أهل العلم حول الوسوسة ودُخول إبليس إلى الجنة تدور على هذه الوجوه . وكَون إبْليس دَخَل الْجَنَّة لا يَتَعَارَض هَذا مَع طَرْدِه وإبْعَادِه ، لأنه لم يَدْخُل الْجَنَّة دُخُول الْمُكَرَمين ، ولا دَخَلَها دُخُولاً يُخِلّ بِوَعْد الله ، فلَم يَدْخُل الْجَنَّة دُخُول خَالِدٍ فِيها ، ولا دُخُول مُكَرَّم .وهذا كَما قَال العُلَمَاء في مثل قوله عليه الصلاة والسلام : لا يَدْخُل الْجَنَّة قَاطِع . رواه البخاري ومسلم . فإنَّهم حَمَلوه - فِيما حَمَلُوه عَليه - على أنَّ " مَعْنَاه : جَزَاؤه أنْ لا يَدْخُلَها وَقْت دُخُول الفَائزِين إذا فُتِحَتْ أبْوَابُها لَهُم بَل يُؤَخَّر " ، وأنّه " لا يَدْخُلَها دُخُول الفَائزِين " ، كما قال النووي . 6 - قوله : (في جنة الخلد عيش كريم ورغد ومتع لا تنقطع بلا موانع...فكيف يحرم الله على آدم شجرة بعينها؟؟) من المتقرر عند أهل العلم والإيمان أن الله تعالى لا يُسأل عما يفعل ، فهو أعلم وأحكم . وتحريم شجرة من أشجار الجنة على آدم وقتا من الأوقات لا يعني انقطاع النعيم ، ولا انتهاء الرغد . ألا ترى قوله تعالى : (وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) ؟فقد أثبت الله له العيش الرغيد ، ونهاه عن شجرة واحدة . ألا ترى إلى رغد أهل الدنيا وقد أُبيحت لهم الطيبات وحُرّمت عليهم الخبائث ؟ ومع ذلك لا يُعدّ تحريم الخبائث نقص في رغد العيش .. وقُل مثل ذلك في منع النوم في الجنة ، فقد سُئل عليه الصلاة والسلام : أَفِي الْجَنَّة نَوم ؟ قال : لا ، النَّوم أخُو الْمَوت ، والْجَنَّة لا مَوْت فيها . أخرجه الدارقطني والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشُّعَب ، وقال الهيثمي في المجمَع : رواه الطبراني في الأوسط والبزار ، ورجال البزار رجال الصحيح . كما أن تحريم شجرة من الأشجار هو من باب الابتلاء والاختبار . قال ابن كثير : وأما قوله : (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) ، فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم . اهـ . وقال ابن عطية في تفسيره : وفي حَظْرِه تعالى على آدم الشجرة ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يَدوم ؛ لأن الْمُخَلَّد لا يُحْظَر عليه شيء ولا يُؤمر ولا يُنهى . وقيل : إن هذه الشجرة كانت خُصَّت بأن تُحْوِج آكلها إلى التبرز ، فلذلك نُهِي عنها ، فلما أكل منها ولم تكن الجنة موضع تبرّز أُهْبِط إلى الأرض . اهـ . 7- قوله : ((فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى )عدو في الجنة؟) ليس في الآية ما يُفهم منها أن العدو في الجنة ! وهو كما تقدّم في الوسوسة ، من أنه كان يقف على باب الجنة ، أو يصِل إليهما بسلطان الوسوسة ، إلى غير ذلك مما تقدّم . فلو قلت لشخص أنت آمِن في هذا المكان ، واحذر عدوّك ! فهل يلزم منه أن يكون العدو معه في نفس المكان ؟ الجواب : لا فإن العدو قد يكون من وراء الحدود ، ويجب أن يُحذر ، وكذلك الأمر بالنسبة للشيطان وعداوته ووسوسته . 8 - قوله : (آدم خلق من طين فالأقرب للعقل أنه خلق على الأرض) آدم خُلِق من طِين ، والنص قاضٍ على العقل !فأصل خَلْق آدم عليه الصلاة والسلام من طين ، وأصل خِلْقَته جُمِعت من جميع بِقاع الأرض ، كما قال عليه الصلاة والسلام : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ ؛ فَجَاءَ مِنْهُمْ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ، وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وصححه الألباني . وكونه خُلِق من طِين ، لا يعني أنه خُلِق في الأرض ، بل الأقرب إلى النص أنه خُلِق في السماء . بل هو الذي دلّت عليه النصوص فَخِطاب الله تعالى للملائكة وسُجودهم لآدم كل ذلك كان في السماء . وهذا دالّ على أن الهبوط هبوط مكاني ، وليس مقامي ، كما قال صاحب المقال . وإكمالا للفائدة أُورِد إشكالاً آخر للقدرية ! قال الثعلبي في تفسيره : احْتَجُّوا بأنَّ مَن دَخَل الْجَنَّة يَسْتَحِيل الْخُرُوج مِنها ، قَال الله تَعالى : (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) قال : والْجَوَاب عنه : أنَّ مَن دَخَلَها للثَّواب لا يَخْرُج مِنها أبَدا ، وآدَم لم يَدْخُلْها للثَّوَاب ، ألاَ تَرَى أنَّ خَازِن الْجَنَّة يَدْخُلَها ثم يَخْرُج مِنها ، وإبْليس أيضا كان دَاخِل الْجَنَّة وأُخْرِج مِنها " . اهـ . والله تعالى أعلم . المجيب الشيخ/ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم الداعية في وزارة الشؤون الإسلامية في الرياض |
الساعة الآن 02:22 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2025, by
Sherif Youssef
يُشْترَطُ فِي حَالِ نَقْلِ الفَتَاوَى مِنْ مُنْتَدَياتِ الإرْشَادِ ذِكْرُ اِسْمِ فَضَيلةِ الشَيْخِ عَبْدِ الرَحمنِ السُحَيْمِ أَوْ ذِكْرُ اسْمِ المُنْتَدى