![]() |
خُطبة جُمعة عن .. (الإنصاف)
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، وأفضلُ الصلاةِ وأتَمُّ التسليمِ على سيدِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحْبِه وسلَّمَ أجمعين .
أمَّا بعدُ : فإنَّ مِنْ أجلِّ نِعَمِ اللهِ على هذهِ الأمة أنْ زيّنَهَا بالأخلاقِ الحميدةِ والصفاتِ المجيدةِ التي تَمَّمها وأكملَها خاتَمُ الأنبياءِ والمرسلينَ سيدُّنا محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، القائل : " إنَما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ " وفي روايةٍ ، لأتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ . رواه الإمامُ أحمدُ وابنُ أبي شيبةَ والحاكمُ وصححَهُ . ومِنْ بينِ هذهِ الأخلاقِ الساميةِ الرفيعةِ خُلُقُ ( الإنصافِ )، وهُوَ خُلُقٌ رفيعٌ ، وعادةٌ ساميةٌ ، ومَبدأٌ مُهِمُّ قلَّمَا تَجِدُهُ واضِحَ المعالِمِ واسِعَ الأرجاءِ عندَ غيرِ المسلمينَ كما هوَ عندَ المسلمين . وقد أمَر اللهُ بالإنصافِ . قال سفيانُ بنُ عيينةَ: سُئل عليٌّ رضي اللهُ عنْهُ عنْ قولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) قالَ : العدلُ الإنصافُ ، والإحسانُ التفضُّلُ . والإنصافُ هو: أنْ تُعطيَ غيرَك مِنَ الحقِّ مِنْ نفْسِكَ مثلَ الذي تُحِبُّ أنْ تأخُذَهُ مِنْهُ لو كنتَ مكانَه، ويكونُ ذلكَ بالأقوالِ والأفعالِ ، في الرِّضَا والغَضَبِ، مع مَنْ تُحِبُّ ومع مَنْ تَكْرَه . فقد كان مِن دُعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ . رواه الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ . وصححه الألبانيُّ والأرنؤوطُ . قالَ عمارُ بنُ ياسِرٍ رضي اللهُ عنْهُ : ثلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فقد جَمَعَ الإيمانَ: الإنصافُ مِنْ نَفسِكَ ، وبَذْلُ السلامِ للعالَمِ ، والإنفاقُ مِنَ الإقتارِ . رواه البخاريُّ تعليقا . فالإنصافُ عزيزٌ ، ولا يُوفَّقُ لَهُ إلا كُلُّ مُتجردٍ عنِ الهوى خالٍ مِن التَّعصُبِ . قالَ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ : ما أحسنَ الإنصافَ في كلِّ شيءٍ . وقالَ مالكُ بنُ دينارٍ : وليسَ في النَّاسِ شيءٌ أقلُّ منَ الإنصافِ . وقالَ ابنُ حَزمٍ : أفضلُ نِعَمِ اللهِ تعالى على المرءِ أنْ يَطبعَهُ على العدلِ وحبِّهِ، وعلى الحقِ وإيثارِه . وقدْ أُمِرْنَا بالإنصافِ معَ الأعداءِ حتى في حالِ البغضاءِ ، لِمَا يُصاحِبُ العداوةَ والبغضاءَ في الغالبِ مِنْ غَلَبَةِ النفْسِ ومَيلِها إلى الظُّلمِ والتّشفِي . قالَ سبحانُه وتعـالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) . قالَ ابنُ جريرٍ الطَبِريُّ: وأمَّا قولُهُ: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا) فإنَّه يقولُ : ولا يحمِلَنَّكم عداوةُ قومٍ على ألاَّ تعدِلُوا في حُكمِكُم فيهِم وسيرتِكُم بينَهُم فتجورُوا عليهِم مِنْ أجْلِ ما بينِكُم وبينِهِم مِنَ العداوةِ . اهـ . وقالَ ابنُ كثيرٍ : أي لا يحملنَّكُم بُغْضُ قومٍ على تَرْكِ العَدْلِ فيهِم بلِ استعملوا العدلَ في كُلِّ أحـدٍ صديقًا كانَ أو عَدُّوًا . اهـ . وقدْ أَمَرَ اللهُ تباركَ وتعالى بالعدلِ حتى في الأقوالِ ، كَمَا في قولِهِ تباركَ وتعالى : (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) . وأمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلّ نبيـَّه محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأنْ يَحْكُمَ بالقِسْطِ ، فقالَ: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وأمَرَ اللهُ المؤمنينَ بما أَمَرَ بِهِ الْمُرسلينَ ، فقالَ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) . ثم تأملْ قولَه تعالى : ( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) يتبيّنْ لكَ أنَّ اتّباعَ الهوى سببٌ في الْجَورِ ، ومجانبةِ العَدْلِ وتركِ الإنصافِ . فالهوى والإنصافُ على طرفَي نقيضٍ ، أقْسمَ الهوى ألاَّ يُسَاكِنَ العَدْلَ والإنصافَ في قلبِ بَشَرٍ ، فإذا حلَّ الهوى ترحّلَ الإنصافُ ، وإذا ثبتَ الإنصافُ والعدلُ في قلبٍ سليمٍ سَلِمَ مِنَ الهوى ، وأُوصِدتْ الأبوابُ في وجْهِـه . وما أثارَ غبارَ زوبعةِ الهوى إلاَّ ضَعفُ التوحيدِ ، وقِلّةُ الصِّدْقِ في قولِ كَلمةِ الإخلاصِ . قالَ ابنُ رَجَبٍ : فَمَنْ صَدَقَ في قولِه لا إلَهَ إلا اللهُ ، لم يُحِبَّ سِواه ، ولم يَرْجُ إلا إيّاه ، ولم يَخْـشَ أحـدا إلا اللهَ ، ولم يتوكـلْ إلا على اللهِ ، ولم تبْقَ له بقيّةٌ من آثارِ نفسِهِ وهواه . اهـ . عبادَ اللهِ لقدْ توعّدَ اللهُ المطفِّفينَ بِالوَيلِ ، وهو الهلاكُ والخسارُ ، وهُمْ -أعني المطففينَ- الذين إذا اكتالُوا على النَّاسِ يستوفون وإذا كالُوا أو وَزَنُـوا لهم يُخسِرُون الميزانَ . روى الإمام مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ , فَلَقِيَ رَجُلاً لَمْ يَشْهَدِ الْعَصْرَ ، فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ عَنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ؟ فَذَكَرَ لَهُ عُذْرًا ، فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب : طَفَّفْتَ . قَالَ مَالِكٌ : وَقد يُقَالُ لِكُلِّ شيءٍ : وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ . وروى عبدُ الرزاقِ وابنُ أبي شيبةَ أن سَلْمَانَ قَالَ: الصَّلاةُ مِكْيَالٌ ، مَنْ أَوْفَى أُوفِيَ بِهِ ، وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِلْمُطَفِّفِينَ . فلا يُتصوّرُ أنَّ التطفيفَ في الكيلِ والوزنِ فَحَسْب ، بل هُو أعمُّ مِنْ ذَلِكَ . فَمِنَ الصورِ التي يَدْخُلُها التطفيفُ ، ما يكونُ مِنَ الوالِدِ الذي يُريدُ مِن أولادِه أنْ يَبَرُّوه ولا يَعَقُّوه ، وهذا مَطلَبٌ مَنْشُودٌ ، لا غَضَاضَةَ فيهِ ، ولكِنَّ الوالِدَ يَطْلُبُ ذلك وهو لا يُحْسِنُ إلى أولادِهِ في التربيةِ ، بلْ رُبْمَا في التسميةِ ، ولا يُحْسِنُ تَعليمَهُم . فأيُّ بِـرٍّ أرادَ ؟ وأيُّ عقوقٍ نَشَـدَ ؟ إنَّ الإنصافَ يقْتَضِي أنْ يُحْسِنَ هوَ أوَّلاً إلى بَنِيْه ، ثم يُطالِبَهُم بالإحسانِ إليهِ ، أمَّا أنْ يَحِيفَ في تعامُلِهِ مَعَهُم ثم يُطالِبَهم بالإنصافِ فَذَلِكَ بَخْسٌ لِمِيزانِ الحياةِ . ومِن صورِ التطفيفِ حِرصُ الرَّجُلِ على نيلِ كافةِ حقوقِهِ الزوجية المشروعةِ ، ورُبَّما غيرِ المشروعةِ قَسْرًا وقَهْرًا ، ويريدُ أنْ يَحْصُلَ على حقوقِهِ تامّةً تامّة ، بينمَا لا يَفِي بشيءٍ مِنْ حُقِوقِ زوجتِه إلا قليلاً . قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضيَ اللّهُ عنهما : " إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ، كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي الْمَرْأَةُ ؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنْظِفَ جَمِيعَ حَقِّي عَلَيْهَا ، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) . رواه ابنُ أبي شيبةَ وابنُ جريرٍ في تفسيرِه . ومعنى " أستنظِفُ " أي آخُذُ حَقِّي كاملاً . إنَّ التطفيفَ هو أنْ يأخذَ المرءُ كامِلَ حُقِوقِهِ ، دونَ أن يُنقِصَ منها شيئا ، في مقابلِ أن يبخسَ الطرفَ الآخَرَ حُقوقَه ، فيكيلَ بمكيالينِ ، ويَزِنَ بميزانينِ . وإذا ما فعلَ ذَلِكَ فقد عرّضَ نفسَهُ للوعيدِ الذي توعّدَ اللهُ بِهِ مَنْ يبخسونَ الناسَ في الكيلِ ، وهُمْ يَستوفون إذا كَالَ لهُمُ النَّاسُ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) . وهؤلاء هُمُ الجُهالُ ، قالَ أبو الحسنِ البوشنجي في منازِل الناس : الجهالُ الذين علانيتُهُم تخالِفُ أسرارَهُم، ولا يُنصِفونَ مِنْ أنفسِهِم ويطلبونَ الإنصافَ مِنْ غيرِهِم . ومِنْ التطفيفِ وقِلَّةِ الإنصافِ : أنْ يُفْرِطَ الإنسانُ في المديحِ إذا أحبَّ، ويُبْهِتَ صَاحِبَهُ إذا أبْغَضَ . قالَ عُمَرُ رضيَ اللّهُ عنه : لا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفا ، ولا بُغْضُك تَلَفا . فقيلَ : كيفَ ذاك ؟ قالَ : إذا أحببتَ كَلِفتَ كَلَفَ الصَّبيِّ ، وإذا أبْغَضتَ أحببتَ لِصَاحِبِكَ التَّلَفَ . رواهُ البخاريُ في الأدبِ الْمُفْرَدِ . وكثيرٌ مِنَ النَّاسِ إذا أحبَّ أفْرَطَ في المدحِ إفراطا . وإذا أبْغَضَ أسْرَفَ في الذمِ إسرافا . ومَن كانَ هذا حالُه مع إخوانِهِ ففيه شَبَهٌ مِن بني قينقاعِ الذين قالوا عنْ عبدِ اللهِ بنِ سَلاَمٍ : خيرُنا وابنُ خيرِنا ، فلما علِمُوا أنه أسلَمَ قَلَبوا له ظهرَ المِجَنِّ ، فقالوا : شرُّنا وابنُ شرِّنا. وهو هو ابنُ سلامٍ ! واليهودُ قومٌ بُهْتٌ، كما قال عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ رضي اللهُ عنْهُ . كما في الصحيحينِ وهذا الصنيعُ - أعني الاعتدالَ في الحُبِّ والبُغْضِ - مما يَجْعلُ للصُّلْحِ موضِعًا ، ويُبقي على المودةِ زمنا . ويتركُ لعودةِ المياهِ إلى مجاريها طريقا ، كما قيل : إذا أنتَ لم تُنْصِفْ أخاكَ وجَدْتَـه = على طَرَفِ الْهُجْرانِ إنْ كان يَعْقِلُ أيها المؤمنون : قديماً قيلَ : لو أنْصَفَ الناسُ لاستراحَ القاضي . فإذا رأى المرءُ عيوبَ نفسِه ، وقارنَـها بعيوبِ إخوانِه عَلِمَ أنَّ فيهِ عيوبا لو رآها بـها اكتفى . وقديما قيل : قَبِيحٌ مِن الإِنْسَانِ يَنْسَى عُيُوبَهُ *** وَيَذْكُرْ عَيْبًا فِي أَخِيهِ قَدْ اخْتَفَى وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لَمَا عَابَ غَيْرَهُ *** وَفِيهِ عُيُوبٌ لَوْ رَآهَا بِهَا اكْتَفَى ومِن عدمِ الإنصافِ أنْ يفتحَ الإنسانُ عينيهِ على أوْسَعِ حَدَقَاتِـها على عيوبِ إخوانِهِ ، ويُغمضَ عينيه عن عيوبِ نفسِه كأنما أُصيبَ بالعَمَى ! قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُبْصِرُ أحدُكُم القذاةَ في عينِ أخيهِ وينسى الجذلَ أو الجذعَ في عينِ نفسِهِ . قال أبو عبيدٍ : الجذلُ الخشبةُ العاليةُ الكبيرةُ . رواه البخاريُّ في الأدبِ الْمُفرَدِ مرفوعا وموقوفا ، وصححَ الألبانيُّ وَقْفَه على أبي هريرةَ ، ورواه ابنُ حبانٍ مرفوعا – أي : مِنْ قولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ومِنَ المسالِكِ المذمومةِ : إسقاطُ الآخرينَ عند الاستدلالِ والمناقشةِ ، فالعالِمُ الفلانيُّ غَلِطَ ، والآخرُ جانبَ الصوابَ في مسألةِ كذا ، والثالثُ له رأيٌّ شاذٌّ ، وهكذا حتى يكونَ قولُهُ هَوَ المقبولُ ، وحجّةُ خَصْمِهِ داحضةٌ ، وربما كانَ ما ذهبَ إليه هو الشّاذُ ، والصوابُ في خلافِـهِ . والإنصافُ يقتضي أنْ يَذْكُرَ المستَدِلُّ ما لَهُ وما عليهِ ، ثم يُجيبَ عما اسْتَدَلَّ به مخَالِفُـهُ . وليس مِنْ عالِمٍ إلا وله زلّـةٌ أو خطأٌ ، غيرَ أنَّ المحذورَ تتبّعُ زلاتِ العلماءِ ، وإشهارُ سَقَطَاتِ الفضلاءِ . قال ابنُ أبي حاتِم : سمعتُ أبي يقولُ : ذَكَرتُ لأحمدَ بنِ حنبلٍ مَن شَرِب النبيذَ مِن مُحَدِّثي الكوفةِ ، وسَمّيتُ له عددا منهم ، فقال : هذه زَلاّتٌ لهم ، ولا تَسْقُطُ بِزَلاّتِهم عَدَالَتُهُم . الثانية : عبادَ اللهِ : إن المتأمِّلَ لحالِ السّلـفِ - رحمَهُم اللهُ - وكيفَ كانَ تعاملُهم ، يرى أنَّ سُوقَ الإنصافِ كانت عندَهم رائجةً ، بخلافِ حالِ كثيرٍ مِنَ الناسِ اليومَ فقد كسدتْ بِضاعةُ الإنصافِ عندَهم وراجَ الحَيْفُ والجور ، وما كانَ لـه أنْ يروجَ عِندَ أهْلِ الإسلامِ والإيمانِ . حَدَّثَ هشامُ بنُ عُروةَ عن أبيه قالَ : ذهبتُ أسُبُّ حسّانَ عندَ عائشةَ ، فقالتْ : لا تسُبَّهُ ، فإنَّهُ كانَ ينافِحُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه البخاريُّ ومسلم فهذهِ أمُّنـَا - أمٌّ المؤمنينَ عائشةُ رضي اللهُ عَنْها وأرْضَاها - تقولُ ذلكَ في حقِّ مَنْ طالَهـا منه الأذى . لَم يَمنعْها ذلك من إنصَافِهِ ، ومَعْرِفةِ ما لَهُ مِنَ الفَضْلِ حيثُ كانَ ينافِحُ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فلم تَنْسَ لأهْلِ الفضلِ فضلَهُم . وذاكَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ يُنصِفُ خُصومَهُ الذين لَقِيَ منْهُم مِنَ الأذى ما لقي ، فيذكُرُ طوائفَ مِنْ أهلِ البِدَعِ ، فيقولُ : حسناتُـهُم نوعانِ : إما مُوافَقَةُ أهلِ السُّنةِ والحديثِ . وإما الردُّ على من خالَفَ السُّنةَ والحديثَ ببيانِ تناقِضِ حِجَجِهِم . انتهى . وقد نشأتْ ناشئةٌ تنتسبُ إلى العِلْمِ وتدَّعِيهِ ؟! لم يُعْرَفوا بِطولِ باعٍ في العِلمِ ، ولا بكثرةِ ملازمةِ الشيوخِ ، أو تدارسِ العِلمِ وتدريسِه . إلا أنَّـهُم اشتهروا بألسنةٍ حِدادٍ يَسلُقُونَ بـها علماءَ الأمةِ ، ويُغِيرونَ على تراثٍ تلقّتْه الأمـةُ بالقبولِ . حظُّهُم مِن العِلمِ مَقَالٌ في صحيفةٍ ، أو بَحْثٌ في مَجَلَّةٍ ! أينَ هذا المتعالِمُ مِنْ قولِ الإمامِ الذهبيِّ - في ترجمةِ محمدِ بنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزيِّ- : ولو أنَّا كُلَّما أخطأَ إمامٌ في اجتهادِه في آحادِ المسائلِ خَطأً مَغْفُورًا لَهُ ، قُمْنَا عليه وبدَّعْنَاه وهَجَرْنَاه لَمَا سَلِمَ مَعَنا لا ابنُ نَصْرٍ ولا ابنُ منده ، ولا مَنْ هُوَ أكبرُ مِنهما ، واللهُ هو هادي الخلقِ إلى الحقِّ ، وهوَ أرحمُ الراحمينَ ، فنعوذُ باللهِ مِنَ الهوى والفظاظةِ . انتهى . كم نحنُ بحاجةٍ إلى الاعترافِ لأهلِ الفضلِ بفَضْلِهِم ، فالإنصافُ دليلٌ على العِلْمِ، وثمرةٌ مِنْ ثمراتِه . نَقَل القرطبيُّ عن ابنِ عبدِ البرِّ قَوله : مِن بَرَكَةِ العِلْمِ وآدابِه: الإنصافُ فيه، ومَن لم يُنْصِف لم يَفْهَم ولم يَتَفَهَّم . الإنصافُ سببٌ للرِّفعةِ في الدنيا والآخرةِ . قال عليه الصلاةُ والسلامُ : إنَّ الْمُقسطينَ عِندَ اللهِ على منابرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمينِ الرَّحمنِ عزَّ وجَلّ - وكِلتا يديه يمينٌ - الذين يَعدِلُون في حُكْمِهِم وأهلِيهم وما وَلُوا . رواه مسلمٌ . والإنصافُ - رعاكَ اللهُ - سَببٌ لِمَعْرِفةِ الحقِّ والتوفيقِ للصوابِ . قال ابنُ القيمِ : ومَن لَهُ قَدَمٌ راسِخٌ في الشريعةِ ، ومعرفةٌ بمصادِرِهَا وموارِدِها ، وكانَ الإنصافُ أحَبَّ إليه مِنَ التَّعَصُّبِ والهوى ، والعِلْمُ والْحُجَّةُ آثُرُ عِنْدَهُ مِنَ التقليدِ لمْ يَكَدْ يخفى عليه وجْهُ الصوابِ ، واللهُ الْمُوفِّقُ . |
الساعة الآن 08:03 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2025, by
Sherif Youssef
يُشْترَطُ فِي حَالِ نَقْلِ الفَتَاوَى مِنْ مُنْتَدَياتِ الإرْشَادِ ذِكْرُ اِسْمِ فَضَيلةِ الشَيْخِ عَبْدِ الرَحمنِ السُحَيْمِ أَوْ ذِكْرُ اسْمِ المُنْتَدى