دروس شهر الصيام لا تنقضي
ومِن دُروسه : الـتَّثَبُّت والـتَّبَـيُّن .
ذلك أن الصيام لا يثبت إلاّ ببينة وتثبّت
أما البينة فهي إثبات رؤية الهلال أو إكمال عدة شعبان
وأما الـتَّثَبُّت فهو سُؤال مَن رأى الهلال : كيف رآه ؟
ويُتأكَّد مِنه : هل هو مسلم ؟
وفي الحديث : وإن شَهِد شاهِدان مُسْلِمان فَصوموا وأفطروا . رواه الإمام أحمد ، وصححه الألباني والأرنؤوط .
ونحن في زماننا أحوج ما نكون إلى الـتَّـثَـبُّت
وجاء الحث على الـتَّثَبُّت في شَرْعِنا الحنيف .
وفي الـتَّنْزِيل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا)
وفي قراءة (فَتَثَبَّتُوا) .
وفي الحديث : لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لذَهَبَ دِمَاءُ قَوْمٍ وَأَمْوَالُهُمْ . رواه البخاري ومسلم .
وفي زمن ابن عباس وَقَعَتْ دَعْوى بين امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا تَخْرِزَانِ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي الْحُجْرَةِ ، فَخَرَجَتْ إِحْدَاهُمَا وَقَدْ أُنْفِذَ بِإِشْفَى [مِخْيَط] فِي كَفِّهَا ، فَادَّعَتْ عَلَى الأُخْرَى ، فَرُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لذَهَبَ دِمَاءُ قَوْمٍ وَأَمْوَالُهُمْ . ذَكِّرُوهَا بِاللَّهِ ، وَاقْرَءُوا عَلَيْهَا : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) ، فَذَكَّرُوهَا فَاعْتَرَفَتْ . رواه البخاري .
ومما يُذَمّ تَلَقُّف الأقوال دون تَثَبُّت ، فتُطْلَق الألسنة بِقَالَةِ السوء ، وويل لِمَن قال في مؤمن ما ليس فيه ..
وفي الـتَّنْزِيل : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)
وفي السُّـنَّة : مَن قال في مُؤمن ما لَيس فيه أسكنه الله رَدْغة الخبال حتى يَخْرُج مما قال . رواه أبو داود ، وغيره ، وصححه الألباني .
قال الإمام الشافعي :
إذا تكلمت فيما لا يَعنيك مَلَكَتْك الكَلِمَة ، ولَم تَمْلِكها .
وقد عاب الله عز وجل على من يُطيّر الأخبار دون توثيق أو تَأكُّد ، فقال سبحانه وتعالى : (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) .
وأمَرَ الله عز وجل بِالتأكُّد مِن الْخَبَر ، والـتَّثَـبُّتِ مِن الْمُخْبِر ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .
وقال عليه الصلاة والسلام : بِئس مَطِية الرَّجُل : زَعَمُوا . رواه الإمام أحمد والبخاري في " الأدب المفرَد " وأبو داود . وصححه الألباني .
أي : أن مصْدَر أخباره : زَعَمُوا ، وقالوا .. وسَمِعْتُ الناس يَقولون شيئا فَقُلْت !
ومَن حدَّث بِكُلّ ما سَمِع فقد كَذَب ؛ إذ ليس كل ما يُسْمَع مِن حديث الناس يكون حقًّا وصِدْقًا .
قال عليه الصلاة والسلام : كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ . رواه مسلم في "الْمُقدَّمة " .
وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضى الله عنه : بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ . رواه مسلم في "الْمُقدَّمة " .
وقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ لِى مَالِكٌ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ، وَلاَ يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ . رواه مسلم في "الْمُقدَّمة " .
وقال عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِىٍّ : لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ حَتَّى يُمْسِكَ عَنْ بَعْضِ مَا سَمِعَ .
وكم نَتَلَقَّف الأخبار وتحليلاتها ! ثم نبني عليها الأحكام – ربما الجائرة - ..
في أحيان كثيرة نَتَصَوّر بعض الأمور خِلاف ما هي عليه ، فَنَحْكُم بناء على تلك التصَورات ؛ فتأتي أحكامنا جائرة !
أو نَتَلَقّى الأخبار مِن مَصادِر غير مَوثوقة ، ولعل بعضها مِن مَصادر عَدُوّنا ، ثم نَبني قَناعاتنا على شَفَا جُرُف هَار !
ومن ثم نُنَافِح عن تلك القناعات ! ونَسْتَمِيت دفاعا عنها !
ولو تأملنا بعض قناعاتنا لوجدناها أوْهَى من بَيت العنكبوت !
ومن هذا القَبيل أننا ربما أخَذنا كلام الْخَصْم في حَقّ خَصْمه مأخَذ التسليم ، ورأينا أنَّ قَوله حُجَّـة !
فَحَكَمْنا للصافِع على المصفوع ! وقُمْنا بإدانة مفقوء العين ! وصاحبه مفقوء العينين !
وجَرَّمْنا المقتول وبَرَّأنا القَاتِل !
كل هذا لأنّ كثيرًا مِن قناعاتنا زائفة .. وعن السبيل جائرة !
كم مرة أخذنا الْخَبَر الإعلامي والتحقيق الصحفي مأخَذ التسليم ؟!
ثم ما نَلبث أن نَكتشف كَذِب هذا ، وزَيف دَعوى ذاك !
وربما نَطَق الخبر بِكَذِب صَاحِبه ! أو تَضَمَّن التقرير جَوْرَ مُقَرِّره !
أحيانا تَقرأ خَبرا أو تَقريرًا في صحيفة فَتَجِد أنّ كَاتِبه أَبَى إلاَّ فَضْح نَفْسه ! وإعلان تناقضه !
كم مِن كاتِب مجهول ! ولعله في عِداد الكذاّبين ! بل ربما كان " جَبَل كّذِب " !
وكم مِن مُخبِر إعلامي يَصْبَغ الْحَقائق بِصِبْغته ، أو توجّهه ومذهبه !
وكم مِن مُرْتَزِق إعلامي .. تقاضى أجْرَه مِن يَدِ عَدوِّه .. والساحة تشهد بذلك !
ومِن هؤلاء نَتَلقّى الأخبار .. ونَقْتَنِع بما قَالُوه أو كَتبُوه !
ومِن ثَمّ نُلْغِي عُقولنا .. ونُجيّرها لِحساب هذا أو ذاك !
أو نَضَعها على طَبَق مِن ذَهَب ليسكب فيها العدو والصديق والقريب والبعيد .. ما شاء .. كيفما شاء !
وربما قال لك أحدهم .. أو حاجَّك بعضهم بما اقْتَنَع به .. ورأى أنه الحق وما عَداه باطِل !
طَرَح مرّة أحدهم مسألة مما يَجري في الساحة ..
فقلت له : الأمْر بِخِلاف ما تَقول !
قال : كيف ؟
فأوْضَحْتُ له بعض الجوانب المتعلِّقة بالْمَسْألة !
وكان مُقْتَنِعا بما يَقول ..
حتى كأني أقول له : هذا الصبح ليل !!
قال : أنت ما تَثِق بي ؟!
قلت : بلى
قال : لماذا لا تُريد أن تُصدّقني ؟!
قلت : ليست المسألة تصديق .. ولكن ما اقْتَنَعْتَ أنتَ به .. إنما هو صَدى لِمَا تُردِّده وسائل الإعلام !
ثم إن الكلام في " الماجِريَّات " يجب التّثبّت مِنه خاصة إذا تعلّق بأعراض عِباد الله .. والنيل منهم .. أو الطّعن فيهم ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وَأَمَّا " الماجريات " فَإِذَا اخْتَصَمَ رَجُلانِ بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ وَجَبَ أَنْ يُقَامَ فِي أَمْرِهِمَا بِالْقِسْطِ . اهـ .
ومثال آخر :
كُـنّـا في بعض المناطق النائية مِن بِلادنا .. وكُنّـا في مجلس يَضُمّ الصغير والكبير .. والْمُتَعَلِّم والجاهل ..
فتكلّم أحد الشباب – الأغرار – عن قضية اجتماعية .. وكان بعض كُتّاب الصحف يُدندن حولها .. ويُسَعِّر أوُرَاها آخرون !
تكلّم حَولها بعض الشباب – الْمُتَعَلِّم – بأنها ضرورة !
لم يتكلّم بما هو ضرورة فِعلا .. وإنما بما أقنعه به بعض غِلمان الصحافة .. بل بعض الْمَارِقِين الذين ما فَـتِئُوا يَكيدون للإسلام وأهله !
فعلينا أن نُفيد مِن دُروس شَهْر الصيام وِمن تَربيته ..
فَنَتَثَـبَّت مما يُقال ويُطْرَح ..
ونَعِي ما نَتَلَفَّظ به ..
ولا نَخوض في كل ما نَسْمَع على أنه ثَابِت ثُبوت الجبال الرواسي !
ونَتَذَكّر (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .
20 / رمضان / 1431 هـ .
كتبه الشيخ/ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
الداعية في وزارة الشؤون الإسلامية في الرياض